أقسام العائن
1) فهناك العائن ذو النفس الخبيثة التي لا تؤمن بقضاء الله وقدره، ولديها ضعف في الإيمان، ولا يرضيها إلا زوال النعمة عن الغير، فيطلق الوصف بدون ذكر الله ولا تبريك، فتتلقفها الأرواح الشيطانية الحاضرة التي تتمنى أذى المسلم وتكون حينئذ - إذا أراد الله ولم يكن ثمة تحصين - مهلكة، وهذه هي التي قال عنها رسول الله: « العين تُدخل الرجل القبر والجمل القدر » ([1]). وهذا الحسد هو حسد اليهود ومن على شاكلتهم (عياذاً بالله من ذلك) .
2) وهناك عائن ذو نفس طيبة ولكن في غمرة التنافس يطلق الوصف دون ذكر الله، فتتلقّفه الشياطين الحاضرة، فتعمد إما إلى إيذاء المعيون في جسده وأعضائه، أو إيذائه في نفسه بالضيق والخوف ونحوه، وتكون حينئذٍ عيناً مزعجة فقط، وعلاجه سهل بإذن الله، ومثال هذا القسم هو ما ورد في الصحيح في حديث عامر بن ربيعة ([2]) وسهل بن حنيف، وسوف نسوق الحديث بطوله.
وليُعلم أن كل إنسان مهما كان يستطيع أن يضر أخاه بإذن الله بشرط واحد وهو: أن يطلق عليه وصفاً بدون أن يذكر الله. وهذا العمل محرم لأنه من سمّ اللسان المنهي عنه . يقول ابن حجر: ( إن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح، وإن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، فيكون ذلك رقية منه ) ([3]).
أما حديث عامر بن ربيعة وسهل بن حنيف؛ فعن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: « اغتسل أبِيْ سهل بن حنيف بالخرَّار - وادٍ في المدينة - فنزع جُبةً كانت عليه وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبّأة عذراء، فوعك سهل مكانه واشتد وعكه، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوعكه فقيل له: ما يرفع رأسه، فقال: تتهمون له أحداً؟ قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ عليه فقال: « علام يقتل أحدكم أخاه؟ ألا برَّكت؟ اغتسل له ». فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ثم صُبَّ عليه من ورائه ([4]) فبرأ سهل من ساعته » ([5]). وفي رواية: « وأحسبه قال: فأمره فحسا حَسَوات - أي شرب منه - » ([6]).
وفي رواية: « قال - أي عامر بن ربيعة - : فنظرت إليه - أي إلى سهل - فأصبته بعيني فسمعت له قرقعَة في الماء فأتيته فناديته فلم يجبني، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فجاء يمشي فخاض الماء حتى كأني أنظر إلى بياض ساقيه فضرب صدره،ثم قال:اللهم أذهب عنه حرّها وبردها ووَصَبَهَا ([7])، فقام! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو أخيه ما يحبّ فليُبَرّك فإن العين حق » ([8]).
يقول ابن القيم في زاد المعاد: ( إن المغابن والأطراف الداخلية وداخِلة الإزار هذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص ) ([9]). وروى الترمذي بسندٍ حسن: « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الجان ومن عين الإنسان » ([10]).
من فوائد هذا الحديث:
الأولى: لمّا توصّف عامرٌ سهلاً ولم يذكر الله ولم يبرِّك انطلق شيطان من عامر معجباً بهذا الوصف وأوقع الأذى بسهل، فانطلق الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه، فأول سؤال طرحه عليهم: « هل تتهمون له أحداً ». ويندرج تحت هذا السؤال مجموعة أسئلة تطرح على المريض:
س1: هل تتهم أحداً معيناً توصفك بوصف؟
س2: هل أخبرك أحدٌ من الناس أنه سمع من قال فيك وصفاً؟
س3: هل ترى في المنام أحداً من الناس يؤذيك باستمرار؟
س4: هل ترى في المنام حيوانات: كالكلاب والإبل والقطط والقردة والثعابين والعقارب والخنافس تهاجمك؟ ([11])
فإن كان الجواب بنعم على الأسئلة الأولى فيُؤخذ أثرٌ من الشخص الواصف من ريقه أو عرقه، ويُخلط بماء ثم يُصبَّ على رأس المعيون من فوقه صبّةً واحدة ويُشرب منه إن كانت العين أصابت داخل البطن، والجمع بينهما أفضل.
أما السؤال الرابع فإن كان الجواب بنعم، فيُستأنس بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: « للرؤيا كُنَىً وأسماء فكنّوها واعتبروها بأسمائها » ([12]). فنسأل هذا المريض ماذا يعني لك هذا الحيوان من أقاربك وزملائك وجيرانك، أوأين ترى موقع ذلك الحيوان؟ فيقع في خاطره مجموعة أشخاص فيأخذ من أثرهم مع إحسان الظن بهم، لأن الإنسان إذا كان ذاكراً لله عز وجل باستمرار فهو يؤذي ذلك الشيطان الذي جاء عن طريق الوصف بهذا الذكر، فيتراءى له في المنام الشخص العائن أو الحيوان الدال على العائن حتى يتخلص مما هو فيه، وكأنه يقول: هذا هو العائن فخذ أثراً منه وخلّصني من هذا العذاب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: « إن أحدكم لينصي - وفي رواية ليضني - شيطانه كما ينصي أحدكم بعيره في السفر » ([13])،أي من كثرة الذكر .
الثانية: أن التّبريك على الوصف وذكرالله يمنع وصول الجان إلى المعيون ويحصّنه، وقوله صلى الله عليه وسلم: « ألا برّكت » يفيد هذا المعنى، وقد قال صلى الله عليه وسلم: « ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم قول: بسم الله » ([14]).
الثالثة: أمرُ النبي صلى الله عليه وسلم عامراً بالاغتسال. يقول ابن القيم: ( إن المغابن والأطراف، هذه المواضع للأرواح الشيطانية بها اختصاص ) ([15]). بمعنى أن الإنسان له رائحة عرق مميزة، فكل إنسان لا يشبه الآخر، يعرف ذلك الكلب ويعرف ذلك أيضاً الشيطان الذي انطلق من العائن، فحين يؤخذ عرقه أو ريقه ثم يغتسل به أو يشرب منه إن كان للعين إيذاء داخل بطنه، يبتعد هذا الشيطان لأنه مربوط بهذا الوصف الذي أعجبه، فكأن العائن تملكه بدخول هذا العرق منه إلى داخل جسد المعيون وحينئذ ينفك عنه شيطانه!
الرابعة: « صُبَّ عليه من ورائه »: أي من مكان رؤية العائن، ولأن الشيطان المنطلق بسبب هذا الوصف وهو شدة البياض عامٌّ في الجسم، صَبَّ الماءَ على رأسِه حتى يعُمّ جميع جسده المصاب بالعين، ولو أن معيوناً بسبب كثرة أكله مثلاً أصابه ألم في بطنه فلابد أن يصل هذا الأثر (الريق أو العرق) إلى داخل بطنه لأنه موضع العين، وهكذا ، ولا يشترط الاغتسال([16]).
فائدة: ثبت علمياً ([17]) أن الريق والعرق والشعر والظفر والدم، ترسل ذبذبة خاصة من جسم صاحبها حتى ولو انفصلت عنه، ولهذا يستخدم الساحر الظفر والشعر في عملية السحر لاستخدام هذه الذبذبة عن طريق الجن في الإضرار بالمسحور.
الخامسة: ضربُ الرسول صلى الله عليه وسلم صدر سهل وقوله: « اللهم أذهب عنه حرها وبردها ووصبها » وهذا دليل قاطع على أن العين يتبعها شيطان فيتلبس المعيون جزئياً فتحصل له الضيقة في الصدر - بسبب ضغط هذا الشيطان - ، الذي من علامات تلبسه ([18]) كما في الحديث حرارة الظهر وبرودة الأطراف وتعب الجسم كله بالإضافة إلى تلك الضيقة المتمثلة في كثرة التجشؤ والتثاؤب وشدة الانفعال.
السادسة: إذا لم يتهم أحداً معيناً فحينئذ يشرع في القراءة